![]() |
محمـــد الدكـــرورى |
متابعة عراقى صلاح.
ونكمل الجزء الثانى مع القصاص وإن معنى القصاص شرعا هو أن يتلقى المجرم عقابه بمثل ما فعل، فيقتل القاتل، وهكذا، والقصاص من العقوبات المقدرة التي ثبتت أصولها في الكتاب وفصلت في السنة النبوية الشريفة، وتكون في تحقيق المساواة بين الجرم الذي تم ارتكابه والعقاب الواقع على مرتكبه، وإن القصاص قائما على تتبع المذنب وعدم تركه دون عقاب، وعدم ترك المجني عليه دون أن يحصل على حقه، ويقع القصاص في كل العقوبات الإسلامية باستثناء الحدود، ومنها ما هو قائم على الدم، ومنها ما هو قائم على تعويض المتلفات، ومنها ما قدرته الشريعة بالنص، ومنها ما ترك مفتوحا ويقع تقديره على ولي الأمر، وأما عن أنواع القصاص فهو حسب نوع العقوبة فقد قسم علماء المسلمين القصاص إلى نوعين، وهما قصاص صورة وهو أن يقع على الجاني عقوبة مادية مماثلة لما أوقعها على المجني عليه، وهذا النوع هو الأصل في القصاص.
كما وضحته الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة والنوع الآخر وهو قصاص معنوي، وهو أن يقع على الجاني عقوبة مالية تقدر بحسب الخسائر المالية التي وقعت بسبب جنايته أو ترتبت عليها، ويقع القصاص المعنوي في حال عدم التمكن من الوصول إلى الجاني وتطبيق قصاص الصورة عليه، أو في حال إصابته بجروح لا يمكن المماثلة فيها، أو في حال غياب شرط القصاص الحقيقي، وإن حسب نوع الجناية، فقد قسم فقهاء المسلمين القصاص بحسب نوع الجناية المرتكبة إلى نوعين، وهما قصاص في النفس، ويتمثل في قتل النفس بعمد أو دون عمد، وقصاص فيما دون النفس، ويتمثل في قطع الأطراف والتسبب بالجروح الجسدية، وإن في غير القتل والجرح والقطع فهنا أيضا القصاص في السَب، ويشترط ألا يكون السَب في أمر محرّم، كسب الأم أو الأب أو الذات الإلهية، وأيضا هناك القصاص في إتلاف المال، فإنه يرى بعض الفقهاء.
أن من تسبب في إتلاف مال وممتلكات غيره مثل هدم بيت أو حرقه، فيقع عليه مثلما فعل، بينما يرى آخرون أن هذا الأمر غير جائز، ويتوجب من الجاني أن يعوض المجني عليه ماليّاً، وأيضا القصاص في العدوان العمد، ويقع العدوان العمد في حال توفر عدد من الشروط، ومنها أن يكون الجاني ممن تقع عليه المسؤولية وكامل الأهلية، وألا يكون الجاني على حق كأن تكون الجناية بسبب الدفاع عن النفس أو استعادة المال المسروق، وإنه يثبت القصاص بأحد أمرين، وهو الإقرار من قبل الجاني بارتكاب الجرم، والإقرار هو سيد الأدلة، أو شهادة رجلين عدلين، ولا يثبت القصاص بشهادة الواحد ولا بيمين الطالب، وأما عن شروط القصاص في النفس، فهى عصمة المقتول، فلو قتل المسلم حربيا أو مرتدا أو زانيا محصنا فلا قصاص عليه ولا دية، ولكن يعزر، لافتياته على الحاكم، وكذلك أيضا أن يكون القاتل بالغا عاقلا متعمدا، فلا قصاص على صغير، أومجنون، أومخطئ.
وإنما تجب عليهم الدية، وأن لا يكون المقتول ولدا للقاتل، فلا يُقتل أحد الأبوين وإن علا بالولد وإن سفل ذكرا كان أو أنثى، ويُقتل الولد إن قَتَل أحد أبويه إلا أن يعفو ولي الدم، وإذا اختل شرط من الشروط السابقة سقط القصاص وتعينت الدية المغلظة، وقد اختلف في شرط المكافأة في الدم على ثلاثة أقوال، وهي قول الشافعية في أن المسلم لا يُقتل بالكافر، وقول الأحناف في أن المسلم يُقتل بالكافر، وقول المالكية في أن المسلم يقتل بالكافر إن قُتل الأخير غيلة، وكما اختلف بينهم في مقدار الدية، وإن أساس الحدود في الإسلام أنها ضابط يحفظ التوازن بين حقوق الفرد والجماعة معا، فمن حق الفرد على الجماعة هو تحقيق مصالحه وحفظها، وصيانة حياته ومقوماتها، والعمل على حمايته ليس فقط من غيره، بل من نفسه كذلك، ويعني أنه لا يجوز لأحد أن يقيم الحد على نفسه، فلو أن شخصا قتل، هل يجوز له أن يقتل نفسه فيكون بذلك قد أقام الحد من نفسه على نفسه؟
فإن الجواب أنه لا يجوز، فلو أنه قتل الغير لكان قاتلا، ولو قتل نفسه لكان كذلك قاتلا، وللمجتمع كذلك الحق في صيانة كيانه من كل اعتداء أو مساس، وفي الحصول على حياة آمنة وادعة تتسم بالطهر والعفاف، وجميع الجرائم التي حرمها الإسلام إنما هي من النوع الذي لو ترك وشأنه لأدى لاضطراب المجتمع وإشاعة الفوضى والقلاقل فيه، فلا بد من رادع يردع من يخرج على هذا القانون الإلهي الذي شرعه المولى عز وجل، فلا يقبل من أحد أن يسرق أموال الغير ويقول أنا حر، ولا يقبل من أحد أن يقول أنا أزني وأنا حر، لأن هذا الفعل إنما هو اعتداء على المجتمع بأسره، فهذه العقوبات إنما دلت على عدل الله عز وجل وحكمته، لأن بعض الناس يقول ليس من الحكمة ولا من العدل أن تقطع يد السارق، أو يضرب الزاني مائة جلدة، أو يرجم حتى الموت، إن هذه وحشية أتى بها الإسلام، وهذه فضلا عن أنها قولة كفر إلا أن الواحد منهم لو أنه رأى واحدا فوق امرأته.
أو سرق ماله لقتله على الفور، وربما قتل كل من ظن أنه قد سرق دون أن يتحقق من السارق، فلماذا في هذا الموقف ليس عمله وحشيا، والذي أتى به الإسلام هو الوحشي، والله عز وجل يقول فى سورة البقرة " ولكم فى القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقون " ولكم في القصاص مع أنه الموت، فقد أثبت الله عز وجل أن فيه الحياة كل الحياة، لأن أحدا لو قتل أباك فأنت لا تقنع قط إلا أن تقتل من أسرة القاتل مائة شخص، أنت لا تقنع إلا بإبادة الأسرة وأصحاب القبيلة كلها، ولكن الله عز وجل لم يجعل ذلك لك، بينما جعله للحاكم بأن يأخذ القاتل أو القاتلة فقط فيقتله في مقابل قتله لوالدك، فإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن نقول إن تنظيم أمور القصاص فيه توفير الحياة المستقرة الدائمة بين الناس، فمن قتل يقتل ولا يقتل غيره، ولذلك خاصة هذا الأمر يظهر في أن واحدا لو قتل آخر من أسرة أخرى لا يبحثون عن القاتل، وإنما يبحثون عن أعظم رجل في أسرة القاتل.
ويبحثون عن أعظم رجل الذي إذا قتل أوجعهم وأضرهم، وهذا على خلاف قانون الله عز وجل، لأن القاتل هو الذي يقتل فقط، فقول الله عز وجل "ولكم فى القصاص حياة" لا بد وأننا نقتنع ونعتقد أننا لو صرنا بمنهج الله عز وجل، لا بد وأن نحيا حياة كريمة، فلا يتصور أن يسكر فلان، وأن نعاقب فلانا آخر، أو أن يزني فلان وأن يرد على زناه بزنا، فإن هذه فوضى، فهل يتصور أن رجلا زنى بأخت رجل آخر، أو بأمه، أو بامرأته، فهل يقول، أنا لا أقتله، وإنما آخذ حقي بنفسي، وهو أني أزني بامرأته كما زنى بامرأتي، أو أزني بأمه كما زنى بأمي؟ فهذه تسمى الفوضى، وأما الإسلام فإنه جعل حدا لا يزيد ولا ينقص لمن وقع في مثل هذه الفاحشة، ومن وقع في مثل هذا الجرم، فوجب عليه اتباع كتاب الله وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، في تلك الحدود، وهذه العقوبات بجانب كونها محققة للمصالح العامة، وحافظة للأمن العام، فهي عقوبات عادلة غاية العدل.
إذ إن الزنا جريمة من أفحش الجرائم وأبشعها، وعدوان على الخلق والشرف والكرامة، ومقوض لنظام الأسرة والبيوت، ومروج للكثير من الشرور والمفاسد التي تقضي على مقومات الأفراد والجماعات، وتذهب بكيان الأمة، ومع ذلك فقد احتاط الإسلام في إثبات هذه الجريمة فاشترط شروطا لا يقام الحد إلا من خلالها، وعلى أية حال فإن الإسلام قد جعل حدودا وتعزيرات وقصاصا فأما القصاص فإنه حق الأفراد فإن شاءوا عفوا، وإن شاءوا أخذوا حقهم، وأما التعزير فكل جرم ليس فيه حد ففيه التعزير، وهكذا فأن شرع القصاص هو أنه يفضي إلى الحياة في حق من يريد أن يكون قاتلا، وفي حق من يراد جعله مقتولا وفي حق غيرهما أيضا، أما في حق من يريد أن يكون قاتلا، فلأنه إذا علم أنه لو قَتل إنه سيقتل فسوف يترك القتل فلا يقتل فيبقى حيا، وأما في حق من يراد جعله مقتولا، فلأن من أراد قتله إذا خاف من القصاص ترك قتله فيبقى غير مقتول، وأما في حق غيرهما.
فلأن في شرع القصاص بقاء من هم بالقتل، أو من يهم به وفي بقائهما بقاء من يتعصب لهما، لأن الفتنة تعظم بسبب القتل فتؤدي إلى المحاربة التي تنتهي إلى قتل عالم من الناس وفي تصور كون القصاص مشروعا زوال كل ذلك وفي زواله حياة الكل، وأيضا أن المراد من القصاص هو أن نفس القصاص سبب الحياة وذلك لأن سافك الدم إذا أقيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل، فكان القصاص نفسه سببا للحياة من هذا الوجه، وأيضا يدخل فيه القصاص في الجوارح والشجاج وذلك، لأنه إذا علم أنه إن جرح عدوه اقتص منه زجره ذلك عن الإقدام فيصير سببا لبقائهما، لأن المجروح لا يؤمن فيه الموت وكذلك الجارح إذا اقتص منه وأيضا فالشجة والجراحة التي لا قود فيها داخلة تحت الآية، لأن الجارح لا يأمن أن تؤدي جراحته إلى زهوق النفس فيلزم القود، فخوف القصاص حاصل في النفس، وأن المراد من القصاص هو إيجاب التسوية فيكون المراد أن في إيجاب التسوية حياة لغير القاتل.
لأنه لا يقتل غير القاتل بخلاف ما يفعله أهل الجاهلية، ولهذا كانت العرب تقول القتل أنفى للقتل، وقتل البعض إحياء للجميع، ولذلك فإن الله تعالى رحيم بعباده، فقد شرع لهم ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم، وشرع لهم ما يحفظ الكليات الخمس، وهى الدين، النفس، العقل، العرض، المال، وقد يعرف البشر الحكمة من بعض الأحكام وقد يعرفون جزءا منها وقد لا يعرفونها، فالله تعالى شرع لهم ما ينفعهم وإن جهلوا الحكمة من التشريع، وإن شرعت الشريعة الإسلامية الغراء القصاص ومع ذلك فقد أحاطت تطبيق هذه العقوبة القاسية بسياج من الضمانات والكثير من الشروط التي تبعدها عن الخطأ والشّبهة عند تطبيقها، فهناك عدالة القضاء، مع الإقرار بالجريمة، مع شهادة العُدول، مع عدم وجود أي شبهة يمكن أن يستند إليها القاضي إذا لاحت له، لينتقل من عقوبة الإعدام إلى ما بعدها من عقوبات، وهكذا فإن قتل النفس جريمة كبيرة، فقال الله تعالى فى سورة المائدة "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" .
تعليقات
إرسال تعليق
ملاحظة:
-لا تنشر تعليقات غير مرغوب فيها. ستتم إزالته فور مراجعتنا
- تجنب تضمين عناوين URL الخاصة بموقع الويب في تعليقاتك.